حرية التعبير في العالم العربي
بين الاستبداد العربي والأحكام الأوروبية المسبقة
فيصل جلول*
لقد باتت حرية التعبير واحدة من لوازم الحديث عن حاضر ومستقبل العالم العربي. إذ لا يجهر طرف عربي واحد ذو شأن سياسي أو معنوي بعدائه للتعبير الحر. قد يدعي هذا المستبد أو ذاك الحاكم الظالم أن بلده ينعم بحقل حر للقول والتعبير غير أن ادعاءه سرعان ما يتعرض للانهيار خلال نقاش جدي تستخدم خلاله وسائل قياس أولية للتمييز بين التعبير الحر والتعبير المقيد.
يعكس اضطرار المستبدين العرب للتسليم بسيادة هذه القيمة الأساسية في منظومة حقوق الإنسان انتصارا مبدئيا وان كان لا يرمز إلى تغيير كاسح ـ في المدى القريب ـ في علاقات القوى بين الحرية والاستبداد. أقول بكلام آخر عندما يضطر المستبد لتبني قيم معارضي الاستبداد فانه يضرب أسس بقائه نفسها. إن درس سقوط الاستبداد في فرنسا يذهب في هذا الاتجاه ذلك أن لويس السادس عشر فقد ملكه عمليا منذ اللحظة التي قبل فيها بدستور معارضيه الجمهوريين وما جرى من بعد لا يعدو كونه سلسلة من التفاصيل الدرامية المكملة.
إذا كان مآل الصراع حول الحق بالتعبير الحر في العالم العربي يميل بوضوح لصالح المظلومين والمضطهدين وعموم الرأي العام فإن أسئلة عديدة تلح حول كيفية استخدام هذا الحق. يتضح المعنى أكثر عبر طرح المشكلة بصيغة أخرى: ما الذي يفعله أصحاب هذا الحق بحقهم المكتسب؟ كيف يعبرون؟ سأعرج قبل الإجابة عن هذا السؤال على تجربة سابقة شهدنا خلالها احتفالا بحق عربي آخر اكتسب جزئيا غداة انهيار الحرب الباردة. اعني به حق الاقتراع الحر. حينذاك طرح السؤال عن كيفية تصرف أصحاب هذا الحق بحقهم؟ تلاه جدل واسع حول ما إذا كان يحق للناخب الجزائري أن يدلي بصوته للجبهة الإسلامية للإنقاذ أم للتيار الفرنكوفوني الضئيل التمثيل. دار نقاش واسع حينذاك حول شروط الاقتراع الحر وطرحت شعارات من نوع: لا ديموقراطية بلا ديموقراطيين. وقيل أن منح حق الانتخاب لا يستوي مع تحديد هوية المنتخب سلفا, أي أنك لا يمكن أن تطلب من الناخب أن يمارس حقه في الاختيار وأن تقول له في الوقت نفسه: حسنا لك الحق في الانتخاب شرط أن تنتخب في الجزائر سعيد سعدي لا أن تعطي صوتك لعباسي مدني. إن انتخبت الأول فأنت حر وديموقراطي وإن انتخبت الثاني تفقد هذا الحق تماما.
ما أثار الاستغراب في حينه هو أن الإعلان عن حق الاقتراع الحر في الجزائر ترافق مع ضغوطات غربية كثيفة حول ضرورة أن يمارس الجزائريون حقهم في اختيار ممثليهم بحرية تامة حتى يصبح الاقتراع الجزائري مثالا يحتذى في شمال إفريقيا والعالم العربي عموما. لكن ما إن بدأت تظهر نتائج الاقتراع حتى بدا أن الجميع ـ غربا وعربا ـ يرغب بالتراجع عن الخيار الديموقراطي في الجزائر حيث ظهر أن الناس يستخدمون حقهم الطبيعي في إطار ثقافتهم وليس كما يملى عليهم.
وحتى لا يثير هذا النقاش تساؤلات عديمة الجدوى أقول صدقا لو أنني كنت جزائريا لاقترعت لعبد الحميد المهري وليس لعلي بلحاج ولكنت دافعت حتى الموت عن حق الثاني في الترشح للانتخابات طالما أن الجيش الجزائري يضمن له ولمنافسه جواز المنافسة في إطار سياسي وعدم انحراف الأوضاع نحو الإرهاب والعنف أو الحرب الأهلية. ولم أكن وحيدا في تقديري هذا فقد صدف أن التقيت في إطار متابعتي للانتخابات الجزائرية بالمستشرق الفرنسي الراحل جاك بيرك الذي قال لي حرفيا: حسنا فلتتولى الجبهة الإسلامية للإنقاذ السلطة في الجزائر وما الخطر في ذلك؟ ستكتشف الجبهة بعد ثلاثة اشهر أنها غير قادرة على دفع أجور موظفي البريد بفضل سياستها الأيديولوجية وستكون مضطرة لإعادة النظر بهذه السياسة أو التسبب بانهيار اقتصادي وبالتالي الاستقالة من الحكومة وخسارة الانتخابات القادمة. ولعل هذا ما حصل ويحصل في تركيا بصورة شبه حرفية بعد عقدين. هكذا فقدت الديموقراطية في العالم العربي فرصة ذهبية في انتخابات الجزائر ولعلها لا تفقد فرصة جديدة مع حرية التعبير.
ثمة من يعتقد أن الأوروبيين استخلصوا الدروس المفيدة من التجربة الجزائرية في التعامل مع حق الاقتراع الحر في بلداننا. وأتحدث عن أوروبا لأنني لا أعول صراحة على أي تحول جدي في التفكير الأمريكي بمصير العرب والمسلمين. فهذا التفكير يعاني من عطب بنيوي من الصعب إصلاحه في مدى منظور خصوصا أنه آخذ في الاتساع بعد احتلال أفغانستان والعراق والتهديد باحتلال دول أخرى.
و أغتنم المناسبة للقول انه من حسن الحظ أن الرأي العام الأسباني قد اقترع في انتخابات الربيع الماضي لصالح خيار التعايش السلمي مع العرب والمسلمين بدلا من خيار الحرب والاحتلال المهيمن هذه الأيام على الإدارة الأمريكية.
وأعود للدرس الجزائري حيث يرى العديد من الدارسين والمختصين الأوروبيين انه من الصعب أن يتم التعايش السلمي والتفاعل الثقافي بين العرب وجيرانهم الأوروبيين دون بناء مجال عام مشترك تحكمه مجموعة من القيم والمفاهيم التي تنظم التعايش والتفاعل بين الطرفين ومن بين هذه القيم حقوق الإنسان المختلفة وعلى الرأس منها الحق في التعبير الحر. والقول بمجال مشترك لا يعني الإستتباع أو الالتحاق أو خضوع طرف لإملاءات الطرف الآخر.
لابد من الاعتراف هنا أننا نحتاج إلى جهود حثيثة ومتواصلة من أجل تحرير المجال المقصود من الأحكام المسبقة والرؤى والتصورات السلبية ناهيك عن الأغراض السياسية الصغيرة أو التكتيكية. ولا بد من الاعتراف أيضا بوجود مشاكل صعبة يتوجب حلها إذا ما أردنا التمسك حتى النهاية بخيار التعايش والتفاعل السلمي بين ضفتي العرب وأوروبا. وفي ظني أن الخطوة الأولى تبدأ بالاعتراف بالصعوبات القائمة.
يظهر لي أن المشكلة التي واجهتنا في ممارسة حق الاقتراع في الجزائر تواجهنا اليوم في ممارسة حق التعبير الحر في الدوحة وبيروت. قد لا يكون التشابه تاما بين المشكلتين لكنها مع الأسف من طبيعة واحدة. في الحالة الأولى ساد شعور مخيف في أوروبا من نتائج الانتخابات الجزائرية عام 1991 أدى إلى مباركة أوروبية بإلغائها وفي الحالة الثانية يسود قلق أوروبي غير مفهوم إزاء استخدام "قناة الجزيرة" و"قناة المنار" لحق التعبير الحر ولعل هذا القلق يفسر تجاهل الرأي العام للمتاعب القضائية التي تعترض القناتين في مدريد وباريس كما يفسر تهجم بعض وسائل الإعلام الأوروبية على القناتين والتعامل معها بوصفها غير جديرة بالانتماء إلى فضاء الصحافة الحرة وقد هالني حديث القناة الفرنسية الثالثة الأسبوع الماضي في برنامج خاص بخطف الصحافيين في العراق وتعرضهم والأذى وعرض صور وأسماء الضحايا الغربيين دون الإشارة إلى استشهاد صحافيين عرب كثر في هذا البلد أثناء ممارسة عملهم ومن بينهم مراسل "الجزيرة" طارق أيوب ناهيك عن منع هذه المحطة من العمل في العراق بسبب تمسكها بحقها الطبيعي في التعبير الحر.
وفي ظني أن أحدا في أوروبا ما كان ليقلق لو أن الأمر يتصل بوسيلة إعلام تافهة. القلق ناجم إذن عن الاستخدام الفعال والمؤثر لحرية التعبير في القناتين المذكورة والشاهد على ذلك هذه المرة مؤسسة استقصاء أمريكية. فقد بيّن استفتاء أجرته مؤسسة جون زغبي في المشرق والمغرب العربي خلال الربيع الماضي أن "الجزيرة" المعمرة منذ أقل من عشر سنوات فقط ـ بالمقارنة مع مؤسسة قرنية كالأهرام في مصرـ تحظى بالمرتبة الأولى في العالم العربي وتليها في مرتبة أبعد قناة "المنار" اللبنانية. ولا اشك في أن تصدر "الجزيرة" هو ثمرة طبيعية لالتزامها قواعد التعبير الحر وليس لان ملايين مشاهديها من المتعاطفين مع الإرهاب كما توحي بعض التعليقات العنصرية الأمريكية. سأتحدث هنا عن متاعب "الجزيرة" الأسبانية وسأترك الحديث عن متاعب "المنار" الفرنسية إلى ندوة مماثلة تنظمها اللجنة العربية لحقوق الإنسان في باريس أواسط فبرايرـ شباط المقبل.
لا جدال في أن قناة الجزيرة تلعب دورا مركزيا في مجال حرية التعبير في العالم العربي. أنها ـ نعم وبكل بساطة ـ تصنع رأيا عاما عربيا حرا وبالتالي تهدد حصون الاستبداد في منطقة يستحق أهلها مصيرا أفضل على كل صعيد. لقد همشت هذه المحطة الصغيرة في حجمها والعملاقة في تأثيرها النظام الإعلامي الخليجي القائم على استثمارات تقدر بمليارات الدولارات. وها هي تطرق أبواب النظام العربي الإعلامي برمته وليس الخليجي وحده ولا مبالغة في القول أننا نشهد اليوم إعادة اصطفاف إعلامي بالقياس إلى الجزيرة. أقول باختصار لقد انتقل محور الإعلام العربي المركزي إلى الدوحة بعد أن استقر طويلا في القاهرة الناصرية مرورا ببيروت قبل الحرب الأهلية عام 1975 وصولا إلى لندن وباريس في الثمانينات وبداية التسعينات مع الصحافة المهاجرة. ولا يشك أي مراقب منصف في أن التفسير الأبرز لهذا الانتقال هو التزام الجزيرة بقواعد التعبير الحر المعروفة عالميا.
لا تقتصر إعادة الاصطفاف على العرب وحدهم فهي تشمل أيضا الإعلام الأجنبي الناطق بالعربية في باريس ولندن وواشنطن وتل أبيب ومن اللافت في هذا المجال أن بعض المصطفين الأجانب صرف النظر سريعا عن منافسة "الجزيرة" كما هي حال الفضائية الإسرائيلية بالعربية في حين يعتبر الدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء العراقي المؤقت والمفترض انه أحد ابرز المستفيدين من الفضائية الأمريكية باللغة العربية يعتبر أنها ليست جديرة بالأموال المبذولة فيها.
في ضوء ما سبق يمكن أن نفهم تماما دوافع المنتقمين من "الجزيرة" في العالم العربي ويمكن أن نطلق الأوصاف الملائمة على ردود أفعالهم العصبية تجاه المحطة القطرية لكن من الصعب أن نفهم معاقبة الجزيرة في أوروبا أو في أسبانيا باعتبار أنها تقع تحديدا في المجال العام المشار إليه في بداية الحديث والذي يفترض انه منطقة التبادل والتعايش والتفاعل الحر المشترك بين العرب وأوروبا.
ليست قضية تيسير علوني منفصلة عن قضية الجزيرة كما يحلو للبعض أن يطرح المشكلة هنا وهناك فهو إذا كان متهما بمقابلة بن لادن أو بتغطيته للحرب الأفغانية في ظروف قاهرة لم يفعل أكثر مما فعله بيتر أرنت في العراق عام 1991 والذي ذهب إلى حد القبول بشروط البث التي تمليها كانت تمليها عليه المخابرات العراقية. وليست قضية علوني منفصلة عن قناة الجزيرة إذا كان متهما بانتمائه السياسي باعتبار أن بنية المحطة ترتكز إلى تعددية واضحة في الحساسيات السياسية للعاملين فيها ولعل هذه التعددية هي أحد أبرز أسباب نجاحها. وليست قضية علوني منفصلة عن الجزيرة إذا ما كان متهما اعتباطا بالإرهاب فهي أيضا متهمة اعتباطا بنشر الإرهاب وممنوعة لهذا السبب من العمل في العراق والعديد من الدول العربية. ولا تنفصل قضيته عنها في الحديث عن التجاوزات العادية فهي أيضا عرضة لاتهامات غير مؤكدة من طرف كل منافسيها.
إن محاكمة علوني في أسبانيا هي بهذا المعنى محاكمة للجزيرة و تحتاج إلى دليل وليس إلى إشاعة. فلتترك إسبانيا الإشاعات للدول المستبدة حيث يمكث آلاف الناس في المعتقلات بلا دليل ولأسباب متصلة بحق الانتماء السياسي أو الفكري أو بحق الاختلاف أو التعبير الحر أو ما شابه ذلك.
إنه لمن المؤسف له أن تحاط هذه القضية بالغموض المتعمد تارة عبر إخلاء سبيله ك" قائد إرهابي" مفترض بكفالة مالية ضئيلة هي أقل من الكفالة المطلوبة لسارق سيارة وتارة أخرى عبر إسقاط التهم عنه ومن ثم العودة إلى اعتقاله بظروف قاسية والإيحاء مجددا بتورطه بأعمال إرهابية وتسريب الأنباء حول وجود أدلة دامغة ضده كل ذلك يغذي الشكوك ويستدرج الدس ويسهم في انتشار الإشاعات ويلحق ضررا بالغا بسمعة المحطة ويتسبب بأذى للعاملين فيها.
مرة أخرى لا يمكن أن يعاب على العرب تأخرهم في مجال التعبير الحر بحسب تقارير التنمية الشهيرة ويعاقبوا على ممارسة حقهم في التعبير في الآن معا. أو أن يطلب منهم أن يعبروا كما يشتهي الآخرون.فكيف يكون التعبير حرا إذا ما كان مشروطا بمقابلة فلان والامتناع عن مقابلة علان. وحجب هذا الخبر ونشر ذاك والنطق بهذا الرأي وعدم النطق بذاك.
أيها السادة.
لقد حكم المستبدون في منطقتنا منذ سنوات بالإعدام على قناة الجزيرة بسبب إصرارها على ممارسة حقها الطبيعي في التعبير الحر دون قيود. هؤلاء وحدهم يطربون اليوم لوضعها في قفص الاتهام في أسبانيا وهؤلاء وحدهم يستفيدون من الإساءة لسمعتها وهؤلاء وحدهم يرغبون في أن تنتصر العبودية على الحرية وهؤلاء وحدهم يمارسون ضغوطا في بلادكم كي تظل المحطة في قفص الاتهام إلى ما شاء الله.
نحترم القضاء في بلادكم ونأمل أن ينطق بالحق بغض النظر عن جنسية المتهم وانتمائه السياسي وممارسة حقه الطبيعي في القول والعمل في إطار القوانين المرعية الإجراء. في هذه الحالة نعتقد أنه سيحكم ببراءة قناة الجزيرة وفي هذه الحالة أيضا يصبح الحكم القضائي بالبراءة وساما آخر يعلق على صدر العاملين فيها علها تواصل الضروري في استدراج مناخات التعبير الحر وفي هذه المناخات وفيها وحدها يستقر التفاعل والتعايش السلمي والتعاون المشترك بين العرب وأوروبا.